سرما زال العلماء عاجزين عن تفسيره
في ليلة صامتة داخل متحف القاهرة، وقف أحد الباحثين يتأمل مومياء فرعونية وُجدت منذ أكثر من ثلاثة آلاف عام. كان الضوء الخافت يتسلّل من المصابيح ليسقط على الوجه المحفوظ بدقّة عجيبة، حتى أنّ تفاصيل الأنف والشفاه لا تزال واضحة، وكأنّ صاحبها لم يفارق الحياة سوى منذ أيام قليلة. همس الباحث في نفسه بدهشة: "كيف استطاعوا أن يتحدّوا الزمن؟".
هكذا يبدأ الغموض الذي حيّر العلماء قرونًا طويلة: سرّ التحنيط عند الفراعنة.
لقد ترك المصري القديم للعالم أجسادًا لم تنهشها التربة، ولم تعبث بها رطوبة القرون، بل بقيت صامدة أمام مرور آلاف السنين. كيف يمكن لعلماء عاشوا قبل الميلاد أن ينجزوا ما تعجز عنه مختبرات القرن الحادي والعشرين؟
لقد حاولت فرق البحث تفكيك هذا السرّ، فاستخدموا أجهزة متقدّمة لتحليل الأنسجة، والزيوت، والأملاح التي غُطّي بها الجسد. تكرّرت التجارب، لكن النتيجة واحدة: لا وصفة كاملة، ولا صيغة نهائية تشرح تلك القدرة الفائقة على حفظ الأجساد.
إنّ ما يزيد اللغز إثارة أنّ المومياوات ليست مجرد عظام ملفوفة بالكتان، بل هي وجوه تحمل ملامح أصحابها. الشعر ما زال في مكانه، الأظافر لم تختفِ، وأحيانًا تبقى البشرة محتفظة بلونها الأصلي. حتى اليوم، لا يملك العلماء تفسيرًا يقينيًا لكيفية وصول الفراعنة إلى هذا المستوى المذهل من الإتقان.
لقد وجد الباحثون في بعض المومياوات آثارًا لمواد لم يكن الحصول عليها متاحًا بسهولة في وادي النيل. بعضها يشير إلى أن المصريين امتلكوا طرقًا واسعة للتجارة والبحث عن العناصر النادرة. ولكن تبقى هناك فجوة غامضة: ما الترتيب الدقيق لهذه المواد؟ وما الطريقة التي جعلتها تتفاعل لتحفظ الجسد وكأنّ الزمن قد توقف عند لحظة الموت؟
يقول أحد العلماء: "لقد جربنا عشرات الخلطات الكيميائية، لكننا لم نصل إلى نفس النتيجة. هناك شيء مفقود، شيء لا نعرفه بعد". هذه الكلمات تكشف أنّ اللغز لم يُحل، وأن سرّ التحنيط ما زال قائمًا، يُطل من بين اللفائف القديمة ليذكّرنا بحدود معرفتنا.
وفي المشهد القصصي ذاته، ظلّ الباحث واقفًا أمام المومياء، يحدّق في ملامحها الصامتة. شعر لوهلة أنّ العينين المطفأتين تراقبانه، وأنّ الجسد يبوح بسرّ مكتوم لا يسمعه أحد. ارتجف قليلاً، ثم دوّن في دفتره: "ليس هذا مجرّد جسد… إنّه رسالة من الماضي".
إنّ سرّ التحنيط ليس علمًا مفقودًا فحسب، بل هو شاهد على عبقرية الإنسان القديم الذي أدرك طرقًا لم نصل إليها بعد. وبينما نملك اليوم آلات دقيقة ووسائل متطورة، يبقى الفراعنة هم الأقدر على هزيمة الزمن.
ولكنّ الحقيقة الأعمق أنّ هذه الأسرار، مهما بدت مبهرة، ليست إلا برهانًا على قول الله تعالى: ﴿وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً ﴾. فالإنسان لن يُحاط بالعلم كلّه، وسيظل الكون يفتح أمامه أبوابًا من الغموض ليُدرك أنّ فوق كلّ ذي علمٍ عليم. إنّ بقاء هذه الأجساد عبر آلاف السنين شاهدٌ صامت على عظمة الخالق، ودليل على أنّ البشر، مهما بحثوا، لن يملكوا مفاتيح كلّ الأسرار.
تعليقات
إرسال تعليق
شاركنا بتعليقاتك