الحمدلله أولاً و آخراً على نعم الإسلام التي لا تعد ولا تحصى، هذا الدين اليسير الذي يحثنا دوماً على ما ينفعنا و ينفع بنا الأمة و يعمر الأرض.
وللأسف فقد تمكن الكثيرون ممن يسعون إلى تشويه صورة الإسلام من طمس معالمه الصحيحة و تعاليمه الأصلية لكي يجعلون الناس تنفر منه و تبتعد عنه و تحرّف في أصوله و تنسب له ما ليس فيه و تضع فيه ما ليس منه، هذا بالإضافة لما يُقال عن السنة النبوية الشريفة وما يُشاع من أحاديثٕ عن الرسول عليه الصلاة والسلام لا أساس لها من الصحة، وفي الوقت ذاته تُهمّش الكثير من الأحاديث المهمّة لفهم أشياء معينة يسأل الناس فيها كثيراً و يجهلونها
فتصبح الآراء متعددة والحكم الصحيح غائب لا يشير له أو يتحدث عنه أحد.
_ ولعل أحد أهم الأمور التي يختلف في صحتها العامة هي "الشِعرُ في الإسلام".
ربما يعتقد البعض بأن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يحبّ الشعر بل و حرّمه و حرّم ممارسته و نسمع كثيراً ممن يفتون للآخرين للأسف يتقولون بهذا الكلام الذي لا أساس له من الصحة، بل على العكس تماماً فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة تمدح بالشِعر وتنفي تحريمه و إنما حرّم الله عز وجل نظم الشعر على رسوله الكريم حكمة منه كي لا يُتهم عليه الصلاة والسلام بالشعر و يُقال عن القرآن الكريم بأنه شعر من صياغته معاذ الله.
أما عن العامة و سائر الناس فهذا جائز ولا ينافي الدين الإسلامي و في حديث للرسول عليه الصلاة والسلام في الشعر قال : "إن من البيان لسحراً، وإن من الشعر لحكمة"
وقوله صلى الله عليه وسلم: "الشعر بمنزلة الكلام، فحسنه كحسن الكلام و قبيحه كقبيح الكلام"
ولعل أحد أبرز الأدلة التي تثبت صحة عدم تحريم الشعر و حب النبي صلى الله عليه وسلم له هو اتخاذه حسان بن ثابت رضي الله عنه شاعراً له.
من هو حسان بن ثابت؟!
هو حسان بن ثابت بن المنذر بن حرلم بن عمرو بن زيد مناة بن عدي بني النجار أخوال عبد المطلب جد النبي عليه الصلاة والسلام من الخزرج.
اختلفت الأقوال في كنيته، فيقال بأنه يُكنى بأبي الوليد، و قيل أبو حسام، وقيل أبو عبد الرحمن.صحابي جليلٌ من الأنصار.
كما أنه شاعر مخضرم مليء بالحكمة والبلاغة وفصاحة اللسان و هذا ما اكتسبه من حياته الزخمة فقد عاش ستين سنة في الجاهلية و مثلها بعد الإسلام و لعل أكثر ما يميز حسان ليس فقط فصاحته و جمال شعره و إنما قوته البلاغية التي استخدمها في الدفاع عن الإسلام فهو دور هام أشاد فيه الرسول عليه الصلاة والسلام إذ قال فيه: " هجا حسان قريشاً فشفى و اشتفى" .
حياته قبل الإسلام:
كانت المدينة المنورة أي يثرب قبل الإسلام على حروب دائمة بين قبلتين هما الأوس و الخزرج، وكان لابد لكل قبيلة من لسان لها يهجو أعدائها و يرد عليهم فسلاح الكلمة ذو أهمية عند العرب كما سلاح الحرب.
اتخذت الأوس من قيس بن الخطيم شاعراً لها و كان حسان بن ثابت شاعراً للخزرج وصارت له شهرة واسعة في الجزيرة العربية تعود أسبابها إلى الشعر الذي كان ينظمه.
عُرف حسان أيضاً بمدحه لملوك الغساسنة وقد تقاسم عطاياهم مع شعراء آخرين، فكان مُنعماً مترفاً يعيش في ظل تلك العطايا.
ثم راح يمدح النعمان بن المنذر آخذاً بهذا محلّ النابغة.
اكتسب من صلاته مع الملوك وبلاطهم خبرة قوية في شعر المدح والهجاء و أساليبه وأضاف هذا لموهبته تألقاً ميّزه بالقوة و الجزالة والتعظيم، و صقلها بشدة فصار حسان لساناً يهجو و يمدح لا يقدر أن يبارزه في كلمته أحد.
:حياته بعد الإسلام
عندما سمع حسان بن ثابت عن الإسلام أسلم من فوره مع الإنصار وفي هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم آخا بينه وبين عثمان بن عفان رضي الله عنهما وكان قد بلغ الستين من عمره تقريباً ولكبر سنه لم يشهد مع الرسول أي واقعة ولكنه كان سلاح الاسلام بلسانه فقد دافع عن الإسلام ونافح عن رسول الله و مدح اصحابه وشهداء الإسلام ، إذ قال في الشهداء في أبيات له عن غزوة مؤتة :
فلا يبعدن الله قتلى تتابعوا بمؤتة
منهم ذو الجناحين جعفر
وزيد وعبد الله حين تتابعوا جميعا
وأسباب المنية تخطر
كما هجا قريشاً مرات عدة ولشدة حنكته فقد استخدم هزائمهم القديمة و أنسابهم ليهجوهم فيها فلو أنه عيّرهم بعبادة الأوثان لما كان ليعنيهم هذا.
وفي موقف لحسان بن ثابت الذي قال فيه النبي للأنصار: "ما يمنع القوم الذين نصروا رسول الله بسلاحهم، أن ينصروه بألسنتهم"
فقال حسان بن ثابت: "أنا لها يا رسول الله" وأخذ بطرف لسانه، ورد النبي: "والله ما يسرني به مِقْول بين بُصرى وصنعاء".
قال في هجاء أبي سفيان:
لست من المعشر الأكرمين
لا عبد شمس ولا نوفل
وليس أبوك بساقي الحجيج
فاقعد على الحسب الأرذل
ولكن هجينٌ منوّط بهم
كما نوّطَت خِلقةُ المِحملِ
_ وقال في هجاء أبي سفيان أيضاً وهند:
أشرتْ لَكَاعٍ وكان عادتها
لؤمٌ إذا أشرت مع الكفرِ
أخرجتِ مُرقصةً إلى أحدٕ
في القوم معنقةً على بكرِ
وهكذا إلى الأبيات:
ونسيتِ فاحشةً أتيتِ بها
ويحك هند سِبّةَ الدهرِ
فرجعتِ صاغرةً بلا تَرةٕ
مما ظفرت به ولا وترِ
قال في هجاء أبي جهل:
لقد لعن الرحمن جمعا يقودهم
دعي بني شجع لحرب محمد.
مسوم لعين كان قدما مبغضا
يبين فيه اللؤم من كان يهتدي.
_ في العام السابع من الهجرة بعد ان نقضت قريش صلح حديبية جهز رسول الله صل الله عليه وسلم جيشا لمحاربة قريش، وفتح مكة المكرمة. حينها أمر رسول الله صل الله عليه وسلم حسان بن ثابت فقال: ” اهجهم يا حسان فإن شعرك أشد عليهم من وقع السيوف”. حينها قال حسن بن ثابت قصيدة هجاء في قريش ويشيد ببطولة المسلمين والأنصار آنذاك. نذكر منها:
عَفَت ذاتُ الأَصابِعِ فَالجِواءُ
إِلى عَذراءَ مَنزِلُها خَلاءُ
دِيارٌ مِن بَني الحَسحاسِ قَفرٌ
تُعَفّيها الرَوامِسُ وَالسَماءُ
وَكانَت لا يَزالُ بِها أَنيسٌ
خِلالَ مُروجَها نَعَمٌ وَشاءُ
فَدَع هَذا وَلَكِن مَن لَطيفٍ
يُؤَرِّقُني إِذا ذَهَبَ العِشاءُ
لِشَعثاءَ الَّتي قَد تَيَّمَتهُ
فَلَيسَ لِقَلبِهِ مِنها شِفاءُ
كَأَنَّ خَبيأَةٍ مِن بَيتِ رَأسٍ
يَكونُ مِزاجَها عَسَلٌ وَماءُ
عَلى أَنيابِها أَو طَعمُ غَصٍّ
مِنَ التُفّاحِ هَصَّرَهُ اِجتِناءُ
إِذا ما الأَشرِباتُ ذُكِرنَ يَوماً
فَهُنَّ لِطَيِّبِ الراحِ الفِداءُ
وفي موقف طلب منه النبي صلى الله عليه وسلم أن يهجو قريشاً في أنسابهم لكنه خشي أن يُلحق حسان هجاء في نسب الرسول فقال له أن يذهب لأبي بكر فهو أعلم بأنساب قريش فيخلص له نسب النبي منهم .
فعاد حسان بن ثابت رضي الله عنه إلى الرسول عليه السلام فقال له: ” يا رسول الله، قد خلص لي نسبك، والذي بعثك بالحق، لأسلنَّك منهم كما تسلُّ الشعرة من العجين”
فقالت السيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنه:” إنَّ روح القدس لا يزال يؤيدك، ما نافحت عن الله ورسوله”.
كل ذلك يعطي لِحسان مكانة رفيعة بين الشعراء و الرواة لكونه شاعر الرسول و أيضاً لاكتسابه من الإسلام هالة شعرية جديدة جعلت من شعر هجائه جزلاً شديداً ومن مديحه للرسول عذباً سلساً نقيا.
من أبياته في مدح النبي:
لما رأيت أنواره سطعت
وضعت من خيفتي كفي على بصري
خوفاً على بصري من حسن طلعته
فلست أنظره إلا على قدري
روح من النور في جسم من القمر.د
كحليةٍ نسجت من الأنجم الزهر
_ وأيضاً:
أغر عليه للنبوة خاتم
من الله مشهود يلوح ويشهد
وضم الإله اسم النبي إلى اسمه
إذا قال في الخمس المؤذن، أشهد
وشق له من اسمه ليجله
فذو العرش محمود وهذا محمد
نبي أتانا بعد يأس وفترة من الرسل
والأوثان في الأرض تعبد
فأمسى سراجا مستنيرًا وهادياً
وصف حسان النبي:
كما أن حسان قال أبياتا عذبة يصف فيها الصدّيق صاحب رسول الله، بعد ما شهد مواقفه و إيمانه و عاشها وتابعها:
إذا تذكرت شجواً من أخي ثقة
فاذكر أخاك أبا بكر بما فعلا
خير البرية أتقاها وأعدلها
بعد النبي وأوفاها بما حملا
الثاني التالي المحمود مشهده
وأول الناس منهم صدّق الرسلا
والثاني اثنين في الغار المنيف
وقد طاف العدو به إذ صعد الجبلا
عاش حميداً لأمر الله متبعاً
بهدي صاحبه الماضي وما انتقلا
وكان حب رسول الله قد علموا
من البرية لم يعدل به رجلا
من قصائد حسان بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام :
بها حجرات كان ينزل وسطها
من الله نور يستضاء ويوقد
معالم لم تطمس على العهد آيها
أتاها البلى فالآي منها تجدد
عرفت بها رسم الرسول وعهده
وقبرًا به واراه في الترب ملحد
ظللت بها أبكي الرسول فأسعدت
عيون ومثلها من الجفن تسعد
من الأبيات التي تصوّر شدة حزنه على وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام:
ما بال عينك لا تنام كأنما كحلت مآقيها بكحل الأرمد.
جزعا على المهدي أصبح ثاويا يا خير من وطئ الحصى لا تبعد.
_ وفي حديث صحيح عن عائشة رضي الله عنها: أن الرسول صلى الله عليه وسلم خصص لحسان منبراً ينافح به في الشعر.
وفاة حسان بن ثابت.
توفي شاعر رسول الله عن عمر ناهز المئة والعشرين سنة وذلك في عهد الخليفة علي بن ابي طالب. تاركاً وراءه سيرة عطرة بمدح النبي والدفاع عنه و مثبتاً أن الجهاد في سبيل الله لا يقتصر على الحرب وحمل السلاح و أن كبر السن لا يمنع المرء من البذل و الفداء لأجل دينه وجاعلاً من الشعر سيفاً ذو حدان يجرح و يداوي. رحم الله شاعر رسول الله حسان بن ثابت و ألهمنا وعلمنا أن نتقصى شيئاً من مسيرته.
كتبت هذا المقال الكاتبة/ فاطمة ريحان
تعليقات
إرسال تعليق
شاركنا بتعليقاتك